منذ أن تحولت صناعة الإعلام في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي من هواية وفن له ممارسوه إلى منظومة علمية لها مناهجها وأسسها العامة وأخلاقياتها وخبرائها وأخذت في التطور والاستقلال شيئاً فشيئاً .. والفاصل المهني بيننا وبين العالم المتقدم يزداد هوّة في التعامل مع هذه الصنعة كعلم خطير ومؤثر ..
ليس جديداً أن أقول بأن الصناعة الإعلامية العربية لا زالت تمارس الدور البدائي للإعلام ذو الاتجاه الواحد والذي يقوم في الغالب على مصالح أو تصفية حسابات أو ردود أفعال أو إثارة غير منضبطة وآخر ما تفكر فيه هم الجمهور الذي لم تكن احتياجاته الفكرية والمعرفية تحتل أولويات الصناعة الإعلامية لدينا ..
هناك أسباب كثيرة جعلت مؤسساتنا الإعلامية هزيلة ومتأخرة .. من أبرزها الهيمنة على سلطة الإعلام وترويضه وتوجيهه من قبل المؤسسات المشرِّعة .. وهذا السبب وإن بات قديماً حيث هدأت حدة تلك الهيمنة مع الانفتاح الكبير وأصبحت هناك مساحة من الحرية بشكل أفضل من ذي قبل إلا أن آثار تلك الهيمنة قد تغلغلت في تركيبة العناصر التي من خلالها تم بناء الصناعة الإعلامية في مجتمعاتنا .. عنصر المؤسسة وعنصر المحتوى وعنصر الجمهور .. فنجد أن جميع هذه العناصر تمت برمجتها على إدمان نمطٍ معين تبحث عنه وتمارسه وتكرره ..
إن المتتبع لوسائل الإعلام الضاربة في عمق المجتمع ولها التأثير الأقوى يجد أنها لا تقدم لشرائح المجتمع التي تستهدفها أي دور إيجابي يمس توجيه الفكر والمعرفة نحو الرقي بالعقل العربي وانتشاله من مرحلة الضياع والانحطاط ولم تمارس واجبها المهني والمجتمعي في ترسيخ ثقافات حضارية وتنموية .. وهذا بلا ريب دليل على عدم مهنية القائمين والمالكين لمثل هذه المؤسسات بالدرجة الأولى ولا شك أن هذا سينسحب على بقية العاملين وأنهم غير مدركين للرسالة الإعلامية السامية التي يحملونها والبعض منهم قد يكون مدركاً لذلك لكن تغليب المصالح الشخصية والمادية هو سيد الموقف .. وقد انعكس ذلك بدوره على المحتوى الإعلامي الذي يقدمونه للجمهور .. أما الجمهور فالسنة الكونية تقول لنا أن السواد الأعظم متلقون ومتأثرون ومن السهل برمجتهم ولذا كان من الطبيعي أن يتشرب أي محتوىً حتى لو كان خاوياً لا قيمة له طالما أنه يخاطب غرائزهم ويغريهم ..
في السنوات الأخيرة .. كانت هناك محاولات لإيجاد مؤسسات إعلامية ذات توجهاتٍ معاكسة كي تكون بديلاً للمؤسسات الحالية لكنها لم تنجح بشكل كبير .. إن النجاح في صناعة الإعلام الاحترافي المهني ينبغي ألا ينطلق من مبدأ أنه “بديل” بل لا بد أن ينطلق من مبدأ أنه “حل” للنهوض بحضارة الأمة .. وذلك يحتاج رؤية وتخطيط سليم وكوادر مهنية متخصصة تحمل رسالة سامية وعقول مبدعة .. ولا يقل أهميةً عن هذا كله توفير الدعم المالي الكبير الذي بدونه لن يستطيع أحد أن ينافس بالإضافة إلى الدعم الحكومي أو على أقل تقدير عدم فرض السيطرة والقيود من المؤسسات التشريعية والرقابية إلا في حدود ضيقة وعلى ما يضمن عدم الإخلال بمنظومة المجتمع دون أن يكون هناك اعتبار لحساسيات زائدة من أطروحات أو أفكار قد تغضب تياراً أو تسعد آخر و دون أن يكون هناك تبنيٍ لأي توجهاتٍ حزبيةٍ أو طائفية ..
إن مشروع النهوض بالإعلام العربي وإن كان يبدو صعباً للغاية إلا أنه تحديٍ بالإمكان النجاح فيه متى ما كانت هناك رغبة ملحّة للارتقاء بالعقل والمجتمع العربي وإعلان انتهاء مرحلة التبعية الفكرية والكسل المعرفي المقيت .. إننا نمتلك طاقاتٍ شبابية في غاية الإبداع متى ما هيئت لهم الظروف وسنحت لهم الفرصة فإنهم بلا شك قادرون على كتابة صفحة جديدة لإعلامٍ مهنيٍ قادرٍ على أداء أدواره بكل فاعلية ..